تداعيات النزاع في مالي على الاستقرار الإقليمي/ د. أحمد العلوي

موريتانيا والتحديات الجيوسياسية: تداعيات النزاع في مالي على الاستقرار الإقليمي

بقلم: د. أحمد العلوي

المقدمة:

تشكِّل المنطقة الصحراوية الممتدة من غرب إفريقيا إلى الساحل نموذجاً مُركَّباً للصراعات الهجينة، حيث تتفاعل التمردات العرقية والتدخلات الخارجية مع الفقر المُزمن لخلق بيئةٍ خصبةٍ لتصاعد التهديدات الأمنية العابرة للحدود. تَبرُز موريتانيا كحلقة وصل جيوسياسية حاسمة في هذا المشهد، نظراً لموقعها الحدودي مع مالي (2,237 كم)، التي تشهد منذ 2012 تفككاً مؤسسياً متصاعداً، تزامناً مع تحوُّل الجماعات المسلحة من متمردين محليين إلى فاعلين إرهابيين عالميين. يُحلِّل هذا المقال التحوُّلات البنيوية للنزاع المالي وتداعياتها الأمنية على موريتانيا، عبر منظور تاريخي-سياسي مُعمَّق، مع استقراء استراتيجيات المواجهة المحلية والإقليمية في ضوء التحديات الراهنة.

الخلفية التاريخية والسياسية للنزاع في مالي: من التمرد الأزوادي إلى عسكرة الدولة (2012–2024)   

  1. تفكك الدولة وبروز الفاعلين غير الحكوميين (2012–2020)   

تعود جذور الأزمة إلى تمرد “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” في يناير 2012، التي استغلت الفراغ الأمني الناجم عن انقلاب العقيد “أمادو سانوغو” على الرئيس “أمادو توماني توري”، لتبسط سيطرتها على شمال مالي بدعمٍ من جماعات إرهابية كـ”أنصار الدين” و”القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”. أدَّى هذا التحالف الهش إلى إعلان “إمارة إسلامية” في تمبكتو، مما دفع فرنسا لشن “عملية سيرفال” (2013) بدعمٍ من دول الساحل، بما فيها موريتانيا، التي شاركت بجيشها في عمليات استخباراتية حاسمة.

إلا أن التدخل الخارجي أخفَق في معالجة الأسباب الداخلية الجذرية للنزاع، كالتهميش الاقتصادي للشمال وفساد النخبة الحاكمة في باماكو، مما مَهَّد لانقلاب 2020 بقيادة العقيد “أسيمي غويتا”، الذي أطاح بالحكومة الانتقالية تحت ذريعة “فشلها في مواجهة الإرهاب”.

  1. عسكرة الحكم وتدويل الأزمة (2021–2024)   

مع تصاعُد الضغوط الدولية على الحكومة المالية، لجأت باماكو إلى تعزيز التحالف مع “مجموعة فاغنر” الروسية عام 2021، كبديلٍ عن الشراكة مع فرنسا وقوات “تاكوبا” الأوروبية، التي انسحبت عام 2022 بعد إلغاء اتفاقيات التعاون العسكري. حوَّلت فاغنر مالي إلى ساحةٍ لتجارب التكتيكات العسكرية القائمة على “القوة الخشنة”، حيث ارتكبت انتهاكاتٍ منهجيةً ضد المدنيين، وفقاً لتقارير منظمة العفو الدولية (2024)، مما دفع 40% من سكان الشمال إلى النزوح.  

وتُوجت هذه التحوُّلات بانسحاب بعثة الأمم المتحدة (MINUSMA) في ديسمبر 2023، بعد عقدٍ من الفشل في تحقيق الاستقرار، تاركةً فراغاً أمنياً استغلته جماعة “أنصار الدين” لتعزيز هجماتها بنسبة 50% خلال النصف الأول من 2024، وفقاً لمجلة “جينز الدفاعية”.

التداعيات الأمنية على موريتانيا: بين حدود هشة وأزمات إنسانية مُعقَّدة

  1. تهديدات التسلل العابر للحدود   

تحوَّلت الحدود الموريتانية-المالية إلى شريانٍ حيويٍّ للجماعات الإرهابية، التي استغلت ضعف المراقبة لتنفيذ 22 هجوماً نوعياً بين 2022 و2024، وفقاً لمركز الدراسات الإستراتيجية بإفريقيا (ACSS)، مستخدمةً أسلحةً مُهرَّبةً من مالي تُشكِّل 70% من ترسانة الجماعات المحلية، بحسب بيانات الأمم المتحدة (يونيو 2024).  

  1. الكلفة الإنسانية: اللاجئون كـ”ضحايا صامتين”   

تفاقمَ الضغط الديموغرافي على موريتانيا مع استقبالها 260,000 لاجئ مالي منذ 2020، وفقاً لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA)، حيث يعاني مخيم “امبرة” في ولاية الحوض الشرقي من انهيار البنية التحتية الصحية والتعليمية، مما تسبب في خلق بيئة خصبة للتجنيد الإرهابي بين الشباب العاطلين، الذين تبلغ بطالتهم 34% وفق البنك الدولي (2024).

استجابة موريتانيا: الاستراتيجية العسكرية-الأمنية وتحديات التنفيذ  

  1. تعزيز الوجود العسكري: من المواقع الحدودية إلى التكنولوجيا المتقدمة   

تبنَّت موريتانيا استراتيجيةً أمنيةً استباقيةً شملت:  

– إقامة 32 موقعاً عسكرياً مُتقدماً على الحدود في الفترة ما بين (2022–2024)، مزوَّدةً بأنظمة مراقبة ليزرية وطائرات مسيَّرة.  

– إطلاق مشروع “حدود آمنة” بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي (40 مليون يورو) لربط المناطق النائية بالأقمار الاصطناعية.  

– تحديث الترسانة العسكرية بوحدات مضادة للدروع والطائرات المسيرة، وفق إعلان للرئاسة الموريتانية (2024).  

  1. التحالفات الإقليمية: إعادة تشكيل خريطة التعاون   

رغم انهيار “قوة مجموعة الخمس بالساحل” (G5 Sahel) بعد انسحاب مالي في 2021، وبوركينا فاسو والنيجر 2023، نجحت موريتانيا في تعزيز تحالفات ثنائية مع الجزائر عبر “منصة استخباراتية مشتركة” أعلن عنها في أكتوبر 2024، وتلقِّي دعم أمريكي بقيمة 90 مليون دولار في إطار مبادرة “مكافحة الإرهاب في الساحل (2023-2025)”، في انعكاس لاستراتيجية “العسكرة الذكية” لمواجهة التهديدات الغير تقليدية.

التحديات المستقبلية: سيناريوهات التفكك ومسارات المواجهة   

  1. سيناريو التصعيد الكارثي   

أعربت مؤسسةRAND  في أكتوبر 2024 عن تخوفاتها من إمكانية ارتفاع الهجمات الإرهابية بنسبة 50% بحلول 2026 في حال استمرار الانهيار المالي، خاصةً مع توسع نفوذ فاغنر نحو الحدود الموريتانية، مما قد يُحوِّل المنطقة إلى “بؤرة للإرهاب” جديدة.

  1. مقترحات استباقية: نحو نموذج أمني تنموي متكامل   

–  دمج الذكاء الاصطناعي في أنظمة الإنذار المبكر عبر الحدود، باستخدام خوارزميات تتبُّع أنماط الهجمات، وبناء جدار أمني من خلال المسيرات.

– مراقبة تسلل اللاجئين والمهاجرين الغير شرعيين نحو المدن، من خلال حزام أمني إلكتروني.

–  تمكين الحوكمة المحلية عبر استثمار 200 مليون دولار في مشاريع بنية تحتية بالمناطق الحدودية، بالتعاون مع الشركاء الدوليين، وذلك لمحاربة البطالة التي تعتبر أحد عوامل الإرهاب.  

–  تفعيل الدبلوماسية الوقائية لاحتواء التدخلات الخارجية المؤججة للنزاع.

 – الضغط على المجتمع الدولي لتحقيق تسوية سياسية في مالي.

     الخاتمة: موريتانيا على مفترق طرق جيوسياسي   

رغم النجاح النسبي في تحصين حدودها، تظل موريتانيا رهينةً لتحوُّلات النزاع في مالي، الذي تحوَّل من أزمة محلية إلى ساحة صراع دولية بين القوى الكبرى. يتطلَّب الخروج من هذا المأزق تبني رؤيةٍ أمنيةٍ لا تقتصر على المواجهة العسكرية، بل تعيد تعريف الأمن كـ”تنمية شاملة”، تُعزِّز الصمود المجتمعي في وجه الإرهاب، وتُعيد الاعتبار للدبلوماسية كأداةٍ لتحييد التدخلات الخارجية. ففي معادلة الساحل المعقَّدة، لا يكفي بناء الجدران العسكرية لصدّ التهديدات؛ بل يجب بناء جسور الثقة بين الدولة والمجتمع.