من وقت لآخر يتكرم علي أستاذي وصديقي السيد Moctar Lefnane Abdellahi بتوجيهات وآراء فكرية راقية ، وتلك عادة من عاداته الكريمة معي ومع غيري .
يحاول الأستاذ المختار ان يقنعنا بحرصه على تواصل الأجيال باعتبار أننا لا ندرك أنه يفكر بواقعية تتجاوز تجربته الذاتية إلى التحلي بأفكار الجيل الذي يعلمه ويتعلم منه .
حدثني عن رغبته في الكتابة عن هذا الموضوع وأنه يتكاسل عنه أحيانا و ينشغل أحيانا أخرى .
ولأنني حريص على أن ترى فكرته الذهبية هذه النور وأن لا تتأخر أكثر مما فعلت فقد استاذنته في الكتابة عنها نيابة عنه ، مع أن هذا تجاسر من تلميذ على أستاذه ، إلا أنه باعتبارات أخرى يشكل فرصة لتقليد الكبار وتعزيز الدربة في المشي على خطاهم .
-------
هناك لبس حاصل بين المفهومين (الرأي العام ورأي العوام )، والسبب في هذا اللبس هو تداخل لغوي يرقى للتشاكل .
فالرأي العام هو ذات واعية و جامعة ولها عقل منحصر في الجوامع والنواظم .
اما رأي العوام فهو مجموعة متباينة من الأفكار والتوجهات غير الثابتة ولا تحكمها مرجعيات واعية ، ولا تتمتع بكوابح مرجعية .
للرأي العام مستشعرات مبدئية جماعية أما رأي العوام فيتشكل وفق زوابع موسمية قد يتجه وجهة ما في وقت ما ويعكس وجهته تلك في وقت آخر .
وقذ شاع بين النخب حديثا مصطلح "الشعبوية" وهو مصطلح يعني إلى حد كبير انصياع الرأي العام لرأي العوام .
وتلك الظاهرة قد نشأت بدورها عن تآكل القيم السياسية للمجتمع الإنساني عموما بعد انقضاء مرحلة التداخل المدرسي وتقلص الآيديولوجيا لصالح الانفتاح السياسي النسبي الذي صبغ التوجهات السياسية في العقدين الماضيين (الاشتراكية الليبرالية بمختلف تشكلاتها ونسخها ) .
نشأ اثناء هذا التفاعل والتداخل جيل لا يحمل قيما سياسية ذات محددات واضحة كالتي سادت منذ الحرب العالمية الأولى وتباينت بعد الحرب العالمية الثانية كفلسفات واضحة التمايز .
ونتيجة تمييع وتآكل هذه الفلسفات لم يعد مربكا أن يرى أحدنا حزبا محافظا يقدم برامج تتعلق بالحريات الجنسية ولا ان نرى حزبا عماليا يقدم برامج محض ليبرالية ولا أن نرى وعودا ليبرالية في ملفات وأخرى اشتراكية في ملفات أخرى في ذات البرنامج المعروض عن هذا الحزب أو ذاك .
وهذا الاستغلال شكل مرحلة من النهم السياسي استهلكت كل المعتقدات واتسع خلالها رقع المطالب على الراقع المبدئي .
فتحت وطأة الهجرة واعباؤها على الدول الصناعية ما لم يعد بإمكان اليسار ان يلتزم بمبادئة الإنسانية حياله ، وتحت ضغط الحاجة للأسواق والمنافسة الصناعية الشرسة لم تعد الليبرالية قادرة على الالتزام بمبادئها حيال التجارة العالمية وحرية السوق وأصبحت حرية التحكم بديلا مقبولا عن تحكم الحرية .
ونتيجة فوضى المبادئ هذه أصبحت السياسية تلتقط من كل شيء بلا ناظم وهذا مانتجت عنه ظاهرة الشعبوية .
وعندما تفتقر السياسة لناظم مبدئي تكون الثقافة قد بدأت فعليا في إعادة التشكل كأداة دفاعية غايتها احتواء الظاهرة وإعادة تشكيل القيم الناظمة من جديد ( هذا ما يحدث الآن داخل الوعي الإنساني لكنه لم يكتمل بعد في صورة واضحة ) .
ستلاحظون أن العالم بدأ يغير ذائقته الفطرية ، كتغيير الجنس و زواج الجنس الواحد و صناعة التحكم في الجمال ( نفخ الشفاه والأرداف والخدود وابتسامات هوليوود .. الخ ) وفق معايير ذوقية مصممة حديثا ( الجميلات حقا يتحولن إلى كيانات صناعية قبيحة ) ليس نتيجة تغير الذوق السطحي (الموضة) وإنما لأن الاختلاف أصبح عنوانا ثوريا مقبولا ، وبعتبير آخر أصبحت رمزية الاختلاف والتحدي اكثر قوة .
هكذا أصبح مستساغا ان تخطو الذكورة خطوات مقبولة نحو الأنوثة وأن ترحل معايير الأنوثة وفق إرادة الجراح و البوتكس والسيلكون .
تحدث هذه الفوضى العارمة وفق إرادة رأي العوام بينما يقف الرأي العام في موقف الرفض القطعي نتيجة اعتبارات مرجعية ومبدئية معروفة ومعهودك في حقب كهذه .
وما يجعل النصر في هذه المعركة حليفا لرأي العوام هو ضياع البوصلة المبدئية على المستوى السياسي ، فحرية تدمير المعايير تتداخل منهجيا مع مفهوم الحرية ، وهذا أقرب مدرسيا لشكل السياسة الحديث لأن الفلسفة السياسية هي أيضا مارست التدمير الذاتي حين تحررت من النواظم والضوابط المعهودة ، ولهذا أصبحت راعية وحامية لرأي العوام الثائر هذا .
واتفق التوجهان على حرية الفوضى بدل أن كانت فوضى الحرية قد استهلكت كامل الحمولات السياسية بما في ذلك المعايير والقيم .
لقد تضافرت هذه الطاقة من مصادر متعددة ولم يعد بالإمكان إيقاف زحف الشعبوية .
لكن سيظل من الواجب حماية ما يمكن حمايته لأن عودة العقلانية لن تكون بعيدا بكل تأكيد ، فالبشرية عبر تاريخها لم تمنح الصرعات العابرة زمام المستقبل ولو أنها لم تستطع عزلها عن التاريخ (الحروب صرعات من جنون البشرية ) .
ما نستطيع فعله اليوم - على المستوى المحلي - هو المبادرة في إصلاح سياسي شامل يعزز وعينا بالتمايز في زوايا الرؤية وطرق الإصلاح مع وحدة تامك في الأهداف والغايات وسموهما .
و إصلاح ثقافي يرشد حركتنا للمستقبل ويؤكد مرونة مرجعيتنا وقدرتها على مسايرة الأجيال واستيعاب التحوالات وقدرتها على تهذيبها .
و إصلاح تنموي راشد يكفل للإنسان أهليته للنجاح كراشد لا رفاهه المجاني كموطن .
و إصلاح قانوني يحمينا من نزعات التحول القيمي ويصدنا عن الانزلاق في حرية الفوضى .
إصلاح يتحمل فيه الرأي العام ترشيد رأي العوام ويحمل فيه رأي العوام خصائص مرجعية راشدة ومبدئية .
المختار ولد عبد الله
(كتب النص / محمد افو ) 2024/07/20