الخيمة الموريتانية: قلبُ الحملات الانتخابية النابض

تحظَى الخيمة بمكانة مميزة، في نفس ووجدان كل موريتاني، ولعلَّ السبب في ذلك مرافقتها لهم بصبر في صحرائهم القاحلة وسهولهم وأدغالهم الصعبة، حيث كانت مساهِمة خلال تاريخ طويل في حمايتهم من وهج الشمس اللافح وصفير الرياح وزمهرير البرد وقطر المطر، في أرض متقلبة المناخ.

ولذلك احتلت الخيمة مكانة بارزة في الثقافة الموريتانية، باعتبارها بيتهم الأول الملائم لطبيعتهم والرفيق الوفي لهم في رحلة الشتاء والصيف التي أدمنوا عليها، في أرضهم الفسيحة، تَتَبُّعًا لِمساقطِ الغيث ومظانِّ الكلأ.

وحتى بعد ميلاد الدولة الوطنية الذي كان تحت خيمة بين غابات البانِ والبشام الكثيفة على رمال نواكشوط، ظلت الخيمة تحتفظ بمكانتها فوق أو إزاء المنازل الحديثة، وكانت المنزلَ المُتَخَيَّر للمناسبات السياسية والاجتماعية والثقافية، والمكان الذي يشعر فيه الموريتاني بالراحة والاستجمام، ويأوي إليه احتماءً من ضغط العمل وضجر الروتين، فهي مفتوحة الأبواب تُدْخَل من الجهات الأربع.

* بيت الحملة المفضل *

منذ انطلاق أول حملة انتخابية في هذه البلاد، والخيمة من لوازمها التي لا غنى لها عنها، فعشية انطلاق أي حملة انتخابية تأخذ الخِيمُ التقليدية زرافات ووحدانا، أماكنَها في الساحات العامة وعند ملتقيات الطرق وعلى قارعتها، كمراكز دعائية متقدمة لهذا المرشح أو ذاك، ويجعل القائمون على هذه الخِيم، منها، أماكنَ لأماس فنية يحضرها كبار الفنانين والشعراء، ويتخلَّلها الترويج للمترشحين وعرض برامجهم الانتخابية، على وقع كؤوس الشاي.

ويرى بعض المُهتمين بالتأريخ لهذه الظاهرة، أن الخيمة أداة نضال سياسي في هذا الوطن، حيث احتضنت كما أسلفنا أول اجتماع وزاري في تاريخ موريتانيا، وكانت الشاهدة على كثير من الأفراح والأتراح والتجاذبات، خلال مدى عمر موريتانيا.

ولذلك لا غرابة إذا كانت المهرجانات والأماسي والحفلات الانتخابية تقام تحتها، لما لها من حضور في المخيلة والتراث الموريتاني.

وتعتبر مهنة تصميم وصناعة الخِيَّم من المهن النسائية الصرفة في هذه البلاد، حيث تعكف مجموعة من النساء على تصميم وخياطة وتطريز هذا الموروث التقليدي الذي ظل الموريتاني متشبثا به حتى داخل المدينة، ويطلق على هذه المجموعة “اتْوِيزَهْ”.

 

وعلى مرمى حجر إلى الجنوب من جسر “تآزر” في نواكشوط الجنوبية، يصطفُّ بمحاذاةِ الطريق سوق بيع الخِيَّم.

وبين خيَّمٍ جُعلت رفوفا لعرض الخيِّمِ بمختلفِ أنواعها وأشكالها وأحجامها، التقينا السيدة فاطمة بنت المصطفى، وهي مشتغلة بتصميم وخياطة وبيعِ الخيام، وفي حديث للوكالة الموريتانية للأنباء، قالت السيدة الخمسينية المُزدادَةُ في سهول شمامه، إنها تنشط في هذا المجال منذ عقد ونصف، حيث كانت أول مرة في سوق مسجد المغرب، قبلَ أن تنتقل إلى مكانها الحالي.

وعن رواج بضاعتها في المواسم الانتخابية، قالت منت المصطفى إن موسم الحملات من المواسم التي ينتظرنَها ويُحَضِّرن لها، لتعويض ضعف الإقبال في معظم فصول العام، مبينة أن الإقبال في هذه الحملة دون المطلوب لِحَدِّ الساعة، متمنية أن تكون خاتمتها خيرا من بدايتها.

وأضافت أنهن يقمن ببيع الخيّم الجاهزة كما يقمن بتأجيرها لفترة محددة، وأن سعر الخيّم بيعًا أو تأجيرًا، يختلف بحسب الحجم والنوع والموسم، معربة عن ارتياحها لما يحصلن عليه من عائد ربحي معتبر في مثل هذه المواسم.

وأسهبت السيدة فاطمة بنت المصطفى، في الحديث بتفصيل عن المراحل التي تمر بها صناعة الخيمة وما يبذل فيها من جهد ذهني وبدني، مبينة الأحجام والأنواع والأشكال وطرق التطريز والزخرفة، ملفتة الانتباه إلى رمزيتها الثقافية والحضارية، باعتبارها بيت الآباء والأجداد الذي ظل الرفيق الطيع لهم تحت كل ظرف.

واشتكت السيدة فاطمة، من منافسة الخيّم الجاهزة المستوردة للمنتوج المحلي، مطالبة بحماية صناعة الخيّم الوطنية ودعمها، لما تمثله من رمزية ثقافية للبلد، ومن فرص للعمل تُدِرُّ عيشًا مقبولا على الكثير من النساء مُعيلات الأسر.

* عودة إلى الوراء *

كانت الخيمة أول ما كانت تنسج من وَبَرِ الضأن أو الإبل، أو هما معا، حيث يمرُّ الوبرُ بمراحل كثيرة قبل أن ينسج، فبعد جزِّه بأدوات تقليدية معروفة، يُنقَّى عن طريق “اتْمَدْرِيسْ” وهو الضرب بعصي غليظة نوعا ما، حتى تسقط التراب والأعواد والعلائق عنه، ثم “يُشَعْشَعُ” أي يضربُ بعصي رقيقة حتى يصبح لينا، وتبدأ مرحلة غزله على شكل كرات، ليتحول بعد ذلك بمراحل و بعدَ أن يَمرَّ بعملية نَقْعٍ في الماء، إلى مرحلة القِطَعِ الطويلة “الفِلَجَ” و”المَطَانِبْ” و “الْحَلَّالَاتْ” ويأخذ ذلك وقتا طويلا لصعوبة النسج.

وتختلف أحجام الخيمة، فقد تكون بطول 14 ذراعا أو 16 أو 20 حسب الحجم المطلوب وحسب مقدرة الأسرة.

وخلال مراحل لاحقة تطور شكل الخيمة لتصبح من القماش، وتتفق معظم المتخصصات في تصميم وصناعة خيَّم القماش التي أصبحت هي السائدة اليوم، أن الخيمة، تتكونُ من خمس طبقات، الطبقة السفلى هي طبقة “لحفول” وعادة تكون من قماش مطرَّز جميل، والطبقة العليا وتكون من قماش أبيض وتسمى “ابياظ الخيمة” بالإضافة إلى ثلاث طبقات داخلية لا يهم لون ونوع قماشها لأنها لا تظهر للعين.

وفي الفترات الأخيرة ازداد التصرف في أشكال وأحجام الخيم وطرق نصبها، وظهر ما يسمى ب “أَكيطون”.

وطالما تغنى الشعراء في هذه الربوع بالخيمة، لما تمثله من بساطة وجمال طبيعي وما ترمز له من حُمولةٍ ثقافية وتاريخية حتى قال قائلهم:

والحسنُ رونقه للعين يظهر في

بيتٍ من الشَّعر لا بيت من الطوب.

و م أ/ تقرير/ النبهاني ولد أمغر